الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.قال الماوردي: قوله تعالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ}.وفي {مِنْ} في هذا الموضع ثلاثة أقاويل: أحدها: أنها صلة وزائدة وتقدير الكلام: قل للمؤمنين يغضوا أبصارهم، قاله السدي.الثاني: أنها مستعملة في مضمر وتقديره، يغضوا أبصارهم عما لا يحل من النظر، وهذا قول قتادة.الثالث: أنها مستعملة في المظهر، لأن غض البصر عن الحلال لا يلزم وإنما يلزم غضها عن الحرام فلذلك دخل حرف التبعيض في غض الأبصار فقال: من أبصارهم، قاله ابن شجرة.ويحرم من النظر ما قصد، ولا تحرم النظرة الأولى الواقعة سهوًا. روى الحسن البصري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ابنُ آدَمَ لَكَ النَّظْرَةُ الأَولَى وَعَلَيكَ الثَّانِيَة».{وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ} فيه قولان:أحدهما: أنه يعني بحفظ الفرج عفافه، والعفاف يكون عن الحرام دون المباح ولذلك لم يدخل فيه حرف التبعيض كما دخل غض البصر.الثاني: قاله أبو العالية الرياحي المراد بحفظ الفروج في هذا الموضع سترها عن الأبصار حتى لا ترى، وكل موضع في القرآن ذكر فيه الفرج فالمراد به الزنى إلا في هذا الموضع فإن المراد به الستر، وسميت فروجًا لأنها منافذ الأجواف ومسالك الخارجات.قوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} والزينة ما أدخلته المرأة على بدنها حتى زانها وحسنها في العيون كالحلي والثياب والكحل والخضاب، ومنه قوله تعالى: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} قال الشاعر:والزينة زينتان: ظاهرة وباطنة، فالظاهرة لا يجب سترها ولا يحرم النظر إليها لقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} وفيها ثلاثة أقاويل:أحدها: أنها الثياب، قاله ابن مسعود.الثاني: الكحل والخاتم، قاله ابن عباس، والمسور بن مخرمة.الثالث: الوجه والكفان، قاله الحسن، وابن جبير، وعطاء.وأما الباطنة فقال ابن مسعود: القرط والقلادة والدملج والخلخال، واختلف في السوار فروي عن عائشة أنه من الزينة الظاهرة، وقال غيرها هو من الباطنة، وهو أشبه لتجاوزه الكفين، فأما الخضاب فإن كان في الكفين فهو من الزينة الظاهرة، وإن كان في القدمين فهو من الباطنة، وهذا الزينة الباطنة يجب سترها عن الأجانب ويحرم عليها تعمد النظر إليها فأما ذوو المحارم فالزوج منهم يجوز له النظر والالتذاذ، وغيره من الآباء والأبناء والإخوة يجوز لهم النظر ويحرم عليهم الالتذاذ.روى الحسن والحسين رضي الله عنهما أنهما كانا يدخلان على أختهما أم كلثوم وهي تمتشط.وتأول بعض أصحاب الخواطر هذه الزينة بتأويلين:أحدهما: أنها الدنيا فلا يتظاهر بما أوتي منها ولا يتفاخر إلا بما ظهر منها ولم ينستر.الثاني: أنها الطاعة لا يتظاهر بها رياءً إلا ما ظهر منها ولم ينكتم، وهما بعيدان.{وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهنَّ} الخمر المقانع أمِرن بإلقائها على صدورهن تغطية لنحورهن فقد كن يلقينها على ظهورهن بادية نحورهن، وقيل: كانت قمصهن مفروجة الجيوب كالدرعة يبدو منها صدروهن فأمرن بإلقاء الخمر لسترها. وكني عن الصدور بالجيوب لأنها ملبوسة عليها.ثم قال: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} يعني الزينة الباطنة إبداؤها للزوج استدعاء لميله وتحريكًا لشهوته ولذلك لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم السلتاء والمرهاء فالسلتاء التي لا تختضب، والمرهاء التي لا تكتحل تفعل ذلك لانصراف شهوة الزوج عنها فأمرها بذلك استدعاء لشهوته، ولعن صلى الله عليه وسلم المفشلة والمسوفة، المسوفة التي إذا دعاها للمباشرة قالت سوف أفعل، والمفشلة التي إذا دعاها قالت إنها حائض وهي غير حائض، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لُعِنَتِ الغَائِصَةُ وَالمُغَوِّصَةُ» فالغائصة التي لا تعلم زوجها بحيضها حتى يصيبها، والمغوصة التي تدعى أنها حائض ليمتنع زوجها من إصابتها وليست بحائض.واختلف أصحابنا في تعمد كل واحد من الزوجين النظر إلى فرج صاحبه تلذذًا به على وجهين:أحدهما: يجوز كما يجوز الاستمتاع به لقوله تعالى: {هن لباس لكم وأنتم لباس لهن} [البقرة: 187].الثاني: لا يجوز لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لَعَنَ اللَّهُ النَّاظِرَ وَالمَنْظُورَ إِلَيهِ».فأما ما سوى الفرجين منهما فيجوز لكل واحدٍ منهما أن يتعمد النظر إليه من صاحبه وكذلك الأمة مع سيدها.{أَوْ ءَابَآئِهِنَّ أَوْ ءَابَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} إلى قوله: {أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} وهؤلاء كلهم ذوو محارم بما ذكر من الأسباب والأنساب يجوز أبدًا نظر الزينة الباطنة لهم من غير استدعاء لشهوتهم، ويجوز تعمد النظر من غير تلذذ.والذي يلزم الحرة أن تستر من بدنها مع ذوي محارمها ما بين سرتها وركبتها، وكذلك يلزم مع النساء كلهن أو يستتر بعضهن من بعض ما بين السرة والركبة وهو معنى قوله: {أو نِسَآئِهِنَّ} وفيهن وجهان:أحدهما: أنهن المسلمات لا يجوز لمسلمة أن تكشف جسدها عند كافرة، قاله الكلبي.والثاني: أنه عام في جميع النساء.ثم قاله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} يعني عبيدهن، فلا يحل للحرة عبدها، وإن حل للرجل أمته، لأن البضع إنما يستحقه مالكه، وبضع الحرة لا يكون ملكًا لعبدها، وبضع الأمة ملك لسيدها.واختلف أصحابنا في تحريم ما بطن من زينة الحرة على عبدها، على ثلاثة أوجه:أحدها: أنها تحل ولا تحرم، وتكون عورتها معه كعورتها مع ذوي محرمها، ما بين السرة والركبة لتحريمه عليها ولاستثناء الله تعالى له مع استثنائه من ذوي محرمها وهو مروي عن عائشة وأم سلمة.والثاني: أنها تحرم ولا تحل وتكون عورتها معه كعورتها مع الرجال والأجانب وهو ما عدا الزينة الظاهرة من جميع البدن إلا الوجه والكفين، وتأول قائل هذا الوجه قوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} على الإِماء دون العبيد، وتأوله كذلك سعيد بن المسيب، وعطاء، ومجاهد.والثالث: أنه يجوز أن ينظر إليها فضلاء، كما تكون المرأة في ثياب بيتها بارزة الذراعين والساقين والعنق اعتبارًا بالعرف والعادة، ورفعًا لما سبق، وهو قول عبد الله بن عباس، وأما غير عبدها فكالحر معها، وإن كان عبدًا لزوجها وأمها.ثم قال تعالى: {أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَة مِنَ الرِّجَالِ} فيه ثمانية أوجه:أحدها: أنه الصغير لأنه لا إرب له في النساء لصغره، وهذا قول ابن زيد.والثاني: أنه العنين لأنه لا إرب له في النساء لعجزه، وهذا قول عكرمة، والشبعي.والثالث: أنه الأبله المعتوه لأنه لا إرب له في النساء لجهالته، وهذا قول سعيد بن جبير، وعطاء.والرابع: أنه المجبوب لفقد إربه، وهذا قول مأثور.والخامس: أنه الشيخ الهرم لذهاب إربه، وهذا قول يزيد بن حبيب.والسادس: أنه الأحمق الذي لا تشتهيه المرأة ولا يغار عليه الرجل، وهذا قول قتادة.والسابع: أنه المستطعم الذي لا يهمه إلا بطنه، وهذا قول مجاهد.والثامن: أنه تابع القوم يخدمهم بطعام بطنه، فهو مصروف لا لشهوة، وهو قول الحسن.وفيما أخذت منه الإربة قولان:أحدها: أنها مأخوذة من العقل من قولهم رجل أريب إذا كان عاقلًا.والثاني: أنها مأخوذة من الأرب وهو الحاجة، قاله قطرب.ثم أقول: إن الصغير والكبير والمجبوب من هذه التأويلات المذكورة في وجوب ستر الزينة الباطنة منهم، وإباحة ما ظهر منها معهم كغيرهم، فأما الصغير فإن لم يظهر على عورات النساء ولم يميز من أحوالهن شيئًا فلا عورة للمرأة معه.[فإِن كان مميزًا غير بالغ] لزم أن تستر المرأة منه ما بين سرتها وركبتها وفي لزوم ستر ما عداه وجهان:أحدهما: لا يلزم لأن القلم غير جار عليه والتكليف له غير لازم.والثاني: يلزم كالرجل لأنه قد يشتهي ويشتهى.وفي معنى قوله تعالى: {أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} ثلاثة أوجه:الأول: لعدم شهوتهم.والثاني: لم يعرفوا عورات النساء لعدم تمييزهم.والثالث: لم يطيقوا جماع النساء.وأما الشيخ فإن بقيت فيه شهوة فهو كالشباب، فإن فقدها ففيه وجهان:أحدهما: أن الزينة الباطنة معه مباحة والعورة معه ما بين السرة والركبة.والثاني: أنها معه محرمة وجميع البدن معه عورة إلا الزينة الظاهرة، استدامة لحاله المتقدمة.وأما المجبوب والخصي ففيهما لأصحابنا ثلاثة أوجه:أحدها: استباحة الزينة الباطنة معهما.والثاني: تحريمها عليهما.والثالث: إباحتها للمجبوب وتحريمها على الخصي.والعورة إنما سميت بذلك لقبح ظهورها وغض البصر عنها، مأخوذ من عور العين.ثم قال تعالى: {وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ} قال قتادة: كانت المرأة إذا مشت تضرب برجلها ليسمع قعقعة خلخالها، فنهين عن ذلك.ويحتمل فعلهن ذلك أمرين: فإما أن يفعلن ذلك فرحًا بزينتهن ومرحًا وإما تعرضًا للرجال وتبرجًا، فإن كان الثاني فالمنع منه حتم، وإن كان الأول فالمنع منه ندب. اهـ. .قال ابن عطية: قوله: {قل للمؤمنين} بمنزلة قوله إنهم، فقوله: {يغضوا} جواب الأمر، وقال المازني المعنى قل لهم غضوا {يغضوا}. ويلحق هذين من الاعتراض أن الجواب خبر من الله وقد يوجد من لا يغض وينفصل بأن المراد يكونون في حكم من يغض، وقوله: {من أبصارهم} أظهر ما في {من} أن تكون للتبعيض وذلك أن أول نظرة لا يملكها الإنسان وإنما يغض فيما بعد ذلك فقد وقع التبعيض، ويؤيد هذا التأويل ما روي من قوله عليه السلام لعلي بن أبي طالب «لا تتبع النظرة فإن الأولى لك وليست لك الثانية» الحديث. وقال جرير بن عبد الله سألت النبي عليه السلام عن نظرة الفجأة فقال «اصرف بصرك» ويصح أن تكون {من} لبيان الجنس، ويصح أن تكون لأبتداء الغاية، والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب وأعمر طرق الحواس إليه وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته ووجب التحذير منه، وحفظ الفروج يحتمل أن يريد في الزنى ويحتمل أن يريد في ستر العورة والأظهر أن الجميع مراد واللفظ عام، وبهذه الآية حرم العلماء دخول الحمام بغير مئزر وقال أبو العالية كل فرج ذكر في القرآن فهو من الزنا إلا هذه الآيتين فإنه يعني التستر.
|